الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وبعد تحرير الرقبة هناك الدية لننثرها على كل مفزع في منفعته فيمن قُتل، ولا نأخذها من أصول القاتل وفروعه، فلا نجمع عليهم مصيبتين القتل الذي قام به أصلهم أو فرعهم؛ لأن ذلك- لا شك- سيصيبهم بالفزع والخوف عن والاشفاق على مَن جنى منهم. وأن يشتركوا في تحمل الدية. وذلك العمل ناشيء عن حكمه. فإذا كان الذي يضع الأشياء في موضعها هو خالقها، فلن يوجد أفضل من ذلك لتستقيم الأمور.وفي المجال البشرى نجد أن أي آلة من الآلات- على سبيل المثال- مكونة من خمسين قطعة، وكل قطعة ترتبط بالأخرى بمسامير أو غير ذلك، وما دامت كل قطعة في مكانها فالآلة تسير سيرًا حسنًا، أما إذا توقفت الآلة فإننا نستدعي المهندس ليضع كل قطعة في مكانها، وكل شيء حين يكون في موضعه فالآلة تمشي باستقامة، وكل حركة في الوجود مبنية على الحكمة لا ينشأ فيها فساد؛ فالفساد إنما ينشأ من حركات تحدث بدون أن تكون على حكمة. والحكمة مقولة بالتشكيك، فهناك حكيم وهناك.أحكم. وقديمًا- على سبيل المثال- كنا نرى الأسلاك الكهربائية دون عوازل فكان يحدث منها «ماس» كهربائي. وعندما اكتشفنا العوازل استخدمناها وعدلنا من تصنيعنا للأشياء. وكنا نجد الأسلاك في السيارة- مثلًا- ذات لون وحجم واحد، فكان يحدث الارتباك عند الإصلاح، لكن عندما تمت صناعة كل سلك بلون معين، فسهل هذا عملية الإصلاح.فالحكمة هي وضع الشيء في موضعه، فما بالنا حين يكون من يضع الشيء في موضعه هو خالقنا؟ لن نجد أفضل ولا أحسن من ذلك.فإذا ما رأينا خللًا في المجتمع فلنعلم أن هناك شيئًا قد ناقض حكمة الله. وعندما نبحث عن العطب سوف نجده، تمامًا مثلما تبحث عن العطب في أي آلة وتأتي لها بالمهندس الذي يصلحها. ويجب أن نرده إلى من خلق المجتمع، ونبحث عن علاج الخلل بحكم من أحكام الله. ولذلك أرشدنا الحق إلى أننا إن اختلفنا في شيء فلنرده إلى الله وإلى الرسول حتى لا نظل في تعب.وبعد ذلك يتكلم الحق عن القتل العمد، وقد يقول قائل: أما كان يجب أن يحدثنا الله عن القتل العمد أولًا؟ ونقول: الحق لو تكلم عن القتل العمد أولًا لكان ذلك موحيًا أنه يحدث أولًا، ولكن الحق يوضح: لا يصح أن تأتي هذه على خيال المؤمن.ويسأل سائل: لماذا لم يقل الحق: «وما كان لمسلم». ونقول: يجب أن ننتبه إلى أن الحق نادى المؤمن لأن الإيمان عمل قلبي، ولهذا كان النداء للمؤمنين ولم يكن النداء للمسلمين؛ لأن الإسلام أمر ظاهري، فقد يقتل إنسان يتظاهر بالإسلام إنسانًا مؤمنًا. لهذا نادى الحق بالنداء الذي يشمل المظهر والجوهر وهو الإيمان.وحين يشرع الحق فلابد أن يأتي بالجزاء والعقاب للذي يقتل عمدًا. وهو يقول: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا...}. اهـ.
إلا أن الفَرَّاء ردَّ هَذا القَوْلَ؛ بأن مثل ذلك لا يجوزُ، إلا إذا تقدَّمه استِثْنَاءٌ آخر، فيكونُ الثَّانِي عطفًا عليه: كقوله: [البسيط] وهذا رأي الفراء، وأمَّا غَيْرُه، فيزعم أنَّ «إلا» تكون عَاطِفَة بمعنى الوَاو من غَيْر شَرْطِ، وقد تقدَّم تَحْقِيقُ هذا في قوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ} [البقرة: 150].وقرأ الجُمْهُور: «خطأ» مهموزًا بوزْنِ «نبأ»، والزهري: «خَطَا» بوزن «عَصَا»، وفيها تخريجان:أحدُهُمَا: أنه حَذَفَ لام الكَلِمَة تَخْفِيفًا بإبدالها ألفًا، فالتقت مع التَّنْوين؛ فَحُذِفَت لالتِقَاء السَّاكِنَيْن، كما يُفْعَل ذلك بِسَائِر المَقْصُور، والحسن قرأ: {خَطَاءً} بوزن «سَمَاء».قوله: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} {خطأ} إما مَنْصُوب على المَصْدَر، أي: قتلًا خطأ، وإما على أنَّه مصدرٌ في مَوْضِع الحال أي ذا خَطَأٍ أو خاطئًا والفَاء في قوله: {فتحرير} جوابُ الشَّرْطِ، أو زائِدَةٌ في الخَبَر إن كَانَت «من» بمعنى الَّذِي، وارتِفَاعُ {تحرير}: إمَّا على الفَاعِليَّةِ، أي: فيجبُ عليْه تَحْرِير، وإمَّا على الابتدائِيَّة، والخبر مَحْذُوف أي: فعليه تحرير أو بالعكس، أي: فالوَاجِبُ تَحْرِيرُ، والتحرير عبارةٌ عن جَعْلِهِ حُرَّا والحُرُّ هو الخَالِصُ، ولما كان الإنْسَان في أصْلِ الخلقة خُلِقَ لِيَكُون مالكًا للأشْيَاءِ، لقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعًا} [البقرة: 29] فكونه مَمْلُوكًا صفة تُكَدَّر مقتضى الإنْسَانِيَّة، فسميت إزالة المُلْكِ تَحْرِيرًا، أي: تخليصًا لذلك الإنْسَان عما يُكَدِّر إنْسَانيَّتَهُ، والرَّقبة عبارَةٌ عن النَّسَمَة في قولهم: «فُلان يَمْلِك كَذَا رَأسًا من الرَّقِيق».والدِّيَةُ في الأصْلِ مَصْدر، ثم أطلَقَ على المالِ المَأخُوذ في القتل، ولذلك قال: {مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ}، والفعلُ لا يُسَلَّمُ بل الأعٍيَان، تقول: وَدَى يَدِي دِيَةً ووَدْيًا، كوشَى يَشِي شِيَةٌ، فحذفت فَاءُ الكَلِمَة، ونَظِيرُه في الصَّحيح اللام: «زِنة» و«عِدة»، و{إلى أهله} متعلَّق بـ {مسلمة} تقول: سَلَّمت إليه كَذَا، ويجُوز أن يكون صِفَةً لـ {مسلمة} وفيه ضَعْفٌ.قوله: {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} فيه قولان:أحدهما: أنه اسْتِثْنَاء مُنْقَطِع.والثاني: أنه متصلٌ.قال الزمخشري: فإن قُلْتَ: بِمَ تَعَلَّق {أن تصدقوا} وما مَحَلُّه؟ قلت: تَعَلَّق بـ {عليه} أو بـ {مسلمة} كأنه قِيلَ: وتَجِبُ عليه الديَّة أو يُسَلِّمُهَا إلا حِين يتصدَّقُون عليه، ومَحَلُّها النَّصْب على الظَّرْف، بتقدير حذف الزَّمَانِ، كقولهم: «اجلس ما دام زَيْدٌ جالِسًا»، ويجُوز أن يكُون حَالًا من {أهله} بِمَعْنَى إلا مُتصدِّقين.وخطَّأه أبو حيَّان في هذين التَّخْرِيجين.أما الأوّل: فلأنَّ النَّحْويَّين نَصُّوا على مَنْع قِيَام «أنْ» وما بعدها مقامَ الظَّرْف، وأنَّ ذلك ما تَخْتَصُّ به «ما» المَصْدَرِيّةُ، لو قلت: «آتيك أن يَصِيحَ الدِّيكُ» أي: وقت صِيَاحه، لم يَجُز.وأما الثَّانِي: فنصَّ سِيبوَيْه على مَنْعِه أيضًا، قال في قَوْلِ العرب: «أنْت الرَّجُل أن تُنَازِلُ، أو أنْ تُخَاصِم» أي: أنْتَ الرَّجُل نزالًا ومُخَاصَمَة: «إنَّ انْتِصَابِ هذا انْتِصَابُ المَفْعُول من أجْلِه، لأنَّ المُسْتَقْبَل لا يَكُون حالًا» فكونُه مُنْقَطعًا هو الصَّوابُ.وقال أبو البَقَاءِ: «وقيل: هو مُتَّصِلٌ، والمَعْنَى: فعليه دِيَةٌ في كُلِّ حَالٍ، إلا في حال التَّصَدُّق عَلَيْه بِهَا».والجُمْهُور على {يصدقوا} بتشديد الصَّاد، والأصل: يتصدَّقوا، فأدْغمت التَّاء في الصَّاد، ونُقِل عن أبيِّ هذا الأصل قِرَاءةٌ، وقرأ أبو عمرو في رِوَاية عَبْد الوَارِثِ- وتُعْزى للحَسَن وأبي عَبْد الرَّحْمَن:- {تصدقوا} بِتَاءِ الخِطَاب، والأصل: تتصَدَّقُوا بتَاءَيْن، فأدغمت الثَّانِية، وقُرئ: {تَصْدُقوا} بتاء الخِطَاب وتَخْفِيف الصَّاد، وهي كالَّتِي قَبْلَها، إلا أنَّ تَخْفِيفَ هذه بِحَذْفِ إحْدَى التَّاءَيْن: الأولَى أو الثَّانِية على خِلاف في ذلك، وتَخْفيف الأولَى بالإدْغَام.قوله: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} مفعولُه مَحْذُوفٌ: أي: فَمَنْ لم يَجِدْ رَقَبة، وهي بِمَعْنَى وجدان الضَّالِّ، فلذلك تَعَدَّتْ لِوَاحِدٍ، وقوله: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} ارتفاعه على أحَدِ الأوْجه المذكُورة في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وقد مَرَّ، أي: فعليه صِيَامُ، أو: فيجبُ عليه صِيَامُ، أو فواجبه صِيَام.قال أبُو البَقَاءِ، ويجُوزُ في غَيْر القُرْآنِ النَّصْبُ على «فليصم صوم شهرين».وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الاسْتِعمَال المعروفَ في ذَلِكَ أنْ يُقَالَ: «صمت شهرين ويومين»، ولا يَقولون: صُمْتُ صومَ- ولا صِيَامَ- شَهْرَين. اهـ. بتصرف.
|